- الفقه الإسلامي / ٠6العبادات التعاملية
- /
- ٠2الربا
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كسب المال :
أيها الأخوة، في أحد دروس الفجر في رمضان الأخير تحدثت عن موضوع الربا، و قد طلب إليَّ أخوة كرام أن أعالج هذا الموضوع بشكل مسهب بعد عيد الفطر، و هاأنذا أوفي بوعدي إن شاء الله، وقبل أن نبحث في موضوع الربا في الحقيقة أنّ البحث الأعم والأشمل موضوع كسب المال، لأن تسعة أعشار المعاصي من كسب المال، ولأن المال مادة الشهوات، والله عز وجل قال:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
فالله جل جلاله أودع في الإنسان حبّ المال، هذا الحب أودعه فيه ليرقى الإنسان به إلى الله عز وجل من خلال ترك الحرام و إنفاق الحلال، فأنت ترقى مرة إذا تعففت عن مال حرام، و ترقى مرة ثانية إذا كسبت مالاً حلالاً فأنفقته في عمل طيب، إذاً تسعة أعشار المعاصي من كسب المال، و لأن الله سبحانه و تعالى أودع حب المال في نفوس الخلق ليرقوا بهذا الحب مرة صابرين و مرة شاكرين، و لأن أساليب كسب المال كثيرة جداً، و الكسب الحلال بين واضح، و الكسب الحرام بين واضح، لكن هناك ألوف بل عشرات الألوف من طرائق كسب المال، وهذه يقع فيها الناس في شبهات، أي يشتبه عندهم هذا الدخل مع الحلال، و يشتبه عند بعض آخر مع الحرام، لذلك وجدتُ موضوعَ كسب المال موضوعاً أساسياً؛ أساسياً و خطيراً في حياة المسلم، لذلك إن شاء الله تعالى في الدروس القادمة سنتحدث عن موضوع كسب المال، لأن كل الأخوة الحاضرين ما منهم واحد إلا و يكسب المال إما من خلال وظيفة، أو من عمل زراعي، أو صناعي، أو تجاري، أو من خدمة، أو من حرفة، فإذا شعر أن كسبه حلال أقبل على الله، ولأن العبد يدعو ويقول: يا رب يا رب و مأكله حرام و مشربه حرام و غذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!
(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
وكذلك فإنّ من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، ربنا جل جلاله قد يتلف الإنسان إذا أكل أموال الناس بالباطل، فلا أعتقد أن في موضوعات الفقه موضوعاً أشد خطورة و أشد مساساً بإيمان المؤمن و إسلام المسلم وسعادة الإنسان من موضوع كسب المال.
المعنى اللغوي للربا في القرآن الكريم :
ومن خلال دروس سابقة كنت أبين لكم أن الحق دائرة يمر بها أربعة خطوط؛ خط النقل؛ و خط العقل؛ و خط الفطرة؛ و خط الواقع، و إذا حرم الله الربا بالنقل فالعقل يرفضه و الواقع يرفضه و الفطرة ترفضه و إليكم هذه الأدلة:
ما معنى كلمة ( الربا )؛ الربا في اللغة الزيادة، أربى فلان على فلان أي زاد عليه، رَبا الشيءُ أي زاد على ما كان عليه، الربوة المكان المرتفع، أربى فلانٌ ماله صيره زائداً كثيراً، هذا المعنى ورد في القرآن الكريم قال تعالى:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
أي المال الذي تصدقت منه يربّيه الله عز وجل، أي يزيده ويضاعفه أضعافاً كثيرة، وقال تعالى:
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
الربوة هي الموضع المرتفع قال تعالى:
﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾
زبداً رابياً أي عالياً، قال تعالى:
﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾
أي: انتفخت، هذا في القرآن الكريم، الربا الزيادة.
المعنى اللغوي للربا في السنة الشريفة و المعاجم اللغوية :
وأما في السنة المطهرة فكما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام:
((مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلا الطَّيِّبَ إِلا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ))
معنى تربو أي تزيد، على كلٍّ في "لسان العرب" وهو معجم من أوسع المعاجم، وذات مرة طالب في الجامعة في قسم الآداب سئل عن لسان العرب ليتحدث عن نظام تأليفه، و عن خصائصه، و عن مؤلفه، و عن تاريخ تأليفه، لكنه لم يقرأ عنه شيئاً فما زاد على قوله: لسان العرب طويل، فرسبه الأستاذ بهذه الكلمة.
في معجم "لسان العرب" رَبا الشيء يربو ربواً أي نما وزاد، و في معجم الزمخشري المسمى "أساس البلاغة" ربا الشيء يربو أي زاد، وأرباه الله تعالى أي ضاعفه أضعافاً كثيرة، المعاجم كلها تؤكد أن الربا هو الزيادة.
تعريف الربا الشرعي :
فما تعريف الربا الشرعي؟ بعد أن عرفناه بالمعنى اللغوي فما تعريفه الشرعي؟.
أيها الأخوة الأكارم، مرة ثانية هذا الدرس مهم جداً لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في آخر الزمان يفشو الربا حتى الذي لا يأكل الربا قد يصيبه غباره".
فإذا عرفنا بالضبط حدود هذا الدرس وتحرّينا الحلال استجاب لنا الله دعاءنا، ونحن الآن في أشد الحاجة إلى الدعاء بل إلى أن يُستجاب دعاؤنا وقد تكالبت علينا أمم الأرض قاطبةً:
(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
الربا: الزيادة على أصل المال من غير عقدِ تبايعٍ، أي أقرضت إنساناً مبلغاً واشترطت عليه أن يرده عليك بزيادة على أصله هذا ربا القروض.
تعريف آخر: الزيادة على أصل المال من غير بيع، هذا التعريف يشمل ربا القروض الذي كان سائداً في الجاهلية.
وأما ربا البيوع، فربا القروض شيء وربا البيوع شيء آخر، ربا البيوع: الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، أي هذا القلم بخمسين ليرة، معنى العوض: الخمسون مقابل تملّك هذا القلم فلو أخذت منه ستين ليرة مقابل أن تؤخر له في دفع الثمن فهذا الربا اسمه ربا البيوع وليس ربا القروض، فهو الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، شرط البيع أن هذا القلم بخمسين فإذا أخذت زيادة عن الخمسين من غير شرط البيع وهو العوض فهذا المبلغ الذي أخذته عند العلماء ربا، هذا التعريف تعريف السرخسي وهو من أكبر فقهاء الأحناف.
والعلامة العيني يقول: فضل المال بلا عوض في معاوضة مال بمال، الخمسون مال والقلم مال، فإذا أقمت عقد معاوضة بين القلم والثمن فالذي تأخذه فوق الخمسين هذا فضل وهذا ربا البيوع.
هناك تعريف يجمع بينهما، هذا التعريف لابن العربي: الربا في اللغة الزيادة والمراد به في الآية كل زيادة لم يقابلها عوض هي الربا.
أنواع الربا :
أمّا الإمام الفخر الرازي فيقول: الربا قسمان ربا النسيئة وربا الفضل، ربا النسيئة أي: الزيادة المشروطة الذي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل، اقترضت من إنسان قرضاً فاستحق أداء القرض فلما أخّر لك الأداء طالبته بزيادة على أصل المال، هذا ربا النسيئة، هذا الربا هو ربا الجاهلية الذي كان شائعاً عند العرب قبل الإسلام، فالربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به من نسب معينة، والآن أي قرض من المصرف بفائدة هو يشبه ربا القروض.
يسمي العلماء ربا القروض الربا الجلي، وربا البيوع الربا الخفي، فكما أن هناك شركاً جلياً أن تعبد بوذا مثلاً، وشركاً خفياً كأن تخاف من إنسان أو تعلق الآمال عليه، والعلماء يرون أن هناك رباً جلياً ورباً خفياً، الربا الجلي ربا القروض، والربا الخفي ربا البيوع والظاهر بيع وشراء.
الإمام ابن القيم الجوزي يقول: الربا نوعان جلي وخفي، فأما الجلي فربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه بالجاهلية، أي التأخير، وسمّى بعض العلماء ربا القروض الربا الحقيقي.
يقول الشيخ الدهلوي: وعُلم أن الربا على وجهين؛ حقيقي ومحمول عليه. أما الحقيقي فهو في الديون وأما المحمول عليه فهو في البيوع.
يقول أحد علماء الأزهر: إن ذلك النوع أي ربا القروض هو أشد أنواع الربا تحريماً، وهو الجاري في التعامل بين الجماعات التي قام نظامها الاقتصادي على أساس ربوي، وقد سمى بعض العلماء القروض بربا القرآن حيث ثبت تحريمه بالقرآن الكريم، أما ربا البيوع على حسب تعريف السرخسي وهو إمام كبير من أئمة المذهب الحنفي فهو الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، أي ثمن هذا القلم خمسون فإذا أخذت زيادة على الخمسين مقابل الأجل أي التأخير فهذا ربا البيوع، ربا القروض وربا البيوع، ربا القروض ربا القرآن، وربا البيوع ربا السنة التي نهى عنها النبي، ربا القروض الربا الحقيقي المحمول عليه، وربا القروض هو الربا الجلي، وربا البيوع هو الربا الخفي.
ربا البيوع :
و عن النبي عليه الصلاة والسلام:
((عَنْ أَبِي قِلابَةَ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ فَجَاءَ أَبُو الأشْعَثِ قَالَ: قَالُوا: أَبُو الأَشْعَثِ، أَبُو الأَشْعَثِ فَجَلَسَ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ مَا أُبَالِي أَنْ لا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ ))
أي هذا القلم بخمسين، فلك عندي خمسون، فإن دفعتها لك الآن خذ أربعين مقابل الخمسين، و إذا أخرت لك الدفع صارت ستين، انتهى الموضوع القلم بخمسين، لو دفعت ثمنه نقداً كان بخمسين، الآن تفاوض على طريقة الدفع فإذا أخرت القبضة طالبته بالستين هذا الربا هو ربا البيوع، ولكن هناك من يزعم أن الربا يشبه البيع قال تعالى:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
لماذا يشبه البيع؟ يقول لك: أنت تشتري هذا القلم بأربعين وتبيعه بخمسين فقد زدت في الثمن والقرض كذلك لكن الفرق دقيق جداً، الإنسان الذي اشترى شيئاً وباعه قدم سلعةً، قدم خدمة، قدم جهداً، قدم محصولاً زراعياً فأفاد الناس، قدم صناعة لبّت حاجاتهم، أما الذي لم يقدم شيئاً إنما أقرض وطالب بزيادة على القرض فهذا يعني أنه جمع الأموال كلها بيده.
علاقة الربا بتداول المال بين الأيدي القليلة :
والحقيقة أننا الآن دخلنا في صلب الموضوع، وأخطر ما في الحياة الاجتماعية أنك أيها الإنسان عضو في الجماعة شئت أم أبيت، وبأيدي هذه الجماعة كتلة نقدية، هذه الكتلة كلما كانت موزعة بين أيدي أفراد الجماعة كان الوضع طيباً ونافعاً ومفيداً، وكان استقرارٌ، وصارت هناك طمأنينة، الجميع يأكلون، والجميع يشربون، والجميع يسكنون، والجميع يتزوجون، والجميع يفرحون، أما إذا جمعت هذه الكتلة النقدية في أيد قليلة وحرمت منها الأيدي الكثيرة بدأ اضطراب الحياة الاجتماعية، بدأت الثورات، بدأ العنف، والعالم اليوم ماذا يشكو؟ العنف، لا أعتقد أن في تاريخ البشرية عصراً يتصف بالعنف كهذا العصر، لماذا؟ لأن المال في كل مجتمع متداول بين أيدٍ قليلة، ربنا عز وجل يقول:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
فما علاقة الربا بتداول المال بين الأيدي القليلة؟ الحقيقة أن الإنسان حينما يضع أمواله في جهة ربوية ماذا فعل؟ ما قدم شيئاً، أما أيّ إنسان آخر قدم محصولاً فهذا المحصول ساهم في خفض الأسعار.
كما تعلمون جميعاً حينما يكون المحصول جيداً جداً يصبح السعر رخيصاً جداً.
تصوروا شكل مخروط، ولهذا المخروط محور داخلي، وهذا المحور الداخلي هو السعر، وهذه الدوائر التي تبدأ واسعة جداً في القاعدة ثم تضيق نحو الأعلى إلى أن تختفي، هذا المخروط ذو شكل دائري في قاعدته ثم تضيق هذه الدوائر إلى أن تصل إلى نقطة، فالمحور الداخلي هو السعر، والشريحة التي تشتري هذه السلعة دائرة، فكلما انخفض السعر اتسعت الشريحة، وكلما ارتفع السعر ضاقت الشريحة، وهذا مثل أطرحه بين أيديكم، الفاكهة التي إن شاء الله سوف تنمو بهذا الصيف، كرز مثلاً إذا كان الكيلو بمئة ليرة، الفليفلة بمئة ليرة كم إنسان يشتري الكيلو بمئة ليرة وشعبنا اثنا عشر مليوناً؟ افرض أنّ عدد من يشتريه خمسمئة ألف، لو صار الكيلو بخمسين ليرة فالذين يشترون مليوناً، فلو صار بخمسة وعشرين فعدد من يشترون أربعة ملايين، ولو كان باثني عشر ليرة ثمانية ملايين ولو كان الكيلو بست ليرات لقال أحدهم بعني كيلوين، أما إذا كان بمئة فضع لي أوقية، بالمئة أوقية إذا كان مضطراً ومترفاً أيضاً. فهذا المخروط كلما ارتفع السعر كلما الدائرة قلَّت وضاقت.
فإذا أثبتنا الآن أن الربا يسهم في رفع الأسعار معنى ذلك هناك علاقة حتمية بين الربا وبين تجمع الأموال في أيدٍ قليلة، وإذا أثبتنا أن تجمع الأموال في أيد قليلة سبّب أعمالَ العنف في العالم وسبب الثورات، إذاً فمعنى ذلك أن أخطر معصية يفعلها الإنسان هي معصية الربا، لأن شارب الخمر يؤذي نفسه، والزاني يؤذي نفسه وهذه التي زنى بها، أما المرابي فيؤذي مجتمعاً بأكمله، فكل أنواع الحرمان التي يعانيها الشباب، وكل الطرق المسدودة التي يقاسيها المتطلعون للزواج، وكل الأعمال المغلقة في وجه طالبي العمل، هذه كلها بسبب تجمُّع الكتلة النقدية بأيدٍ قليلة وانعدامها من أيدٍ كثيرة.
فإذا أثبتنا أن الربا يسهم في تجميع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الكثرة الكثيرة، إذاً فالربا سبب الاضطراب الاجتماعي في العالم أجمع، من هنا لم يرد في القرآن الكريم تهديد حول معصية كتهديد الربا قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾
لا توجد معصية توعد الله بها مرتكبها بالحرب إلا الربا لأن خطر الربا يشمل المجتمع بأكمله.
إصرار الحضارات القديمة على شناعة الربا و من هذه الحضارات :
1 ـ اليونان :
لكن الشيء الذي ربما تفاجؤون به وأنا مضطر أن أذكره لكم هو أن كل الحضارات القديمة أصرت على شناعة الربا.
اليونان: الإغريق أقدم حضارة في العالم ماذا يقولون؟ يقول أفلاطون في كتابه القانون: لا يحل لشخص أن يقرض بالربا.
أرسطو يقول: الربا من ضروب الكسب التي تخالف الطبيعة، ويقول أيضا ً: كان حقاً استنكار الربا لأنه طريقة كسب تولدت من النقد نفسه، في النظرة القديمة، أي بالربا المال يلد المال.
علاقة الربا بالبطالة و بارتفاع الأسعار :
الآن تصور أن إنساناً أنشأ مشروعاً زراعياً أو مشروعَ صناعةٍ زراعيةٍ، مشروع ألبان، طرح هذه المواد في الأسواق بأسعار معتدلة، هذا الطرح الكثيف بسعر معتدل يساهم بخفض الأسعار، أليس كذلك؟ كما قلت قبل قليل: كلما زاد الإنتاج انخفضت الأسعار، و كلما قلّ الإنتاج ارتفعت الأسعار، فالربا يعني أن المال يلد المال، أما بالطرق المشروعة فالمال يأتي من عمل إنتاجي، من عمل زراعي، من عمل صناعي، من عمل تجاري، من خدمات، تؤدي خدمة تأخذ مقابلها، الأعمال تلد الأموال، الطريق المشروع الأعمال تلد الأموال، أما بالربا فالمال يلد المال، الأعمال تسهم في بناء الأمة، تسهم في الرخاء، تسهم في توفير الحاجات، تسهم في خفض الأسعار، أما المال وحده أي إذا تولَّد المال عن طريق الربا فماذا قدم صاحب هذا المال للمجتمع؟ لم يقدم شيئاً، لم يطرح إنتاجاً زراعياً و لا صناعياً و لا قدم خدمات، و هناك شيء آخر أنت حينما تقوم بمشروع، وتنشئ مشروعاً أيَّ مشروع كان، فمئات الأشخاص بل عشرات المئات بل الألوف تستخدمهم و أنت لا تدري، تحتاج إلى فاتورة فلا بد من مطبعة، المطبعة تريد حبراً، و المطبعة تريد موظفين، و تريد محاسباً، و تريد عمالاً، و تريد مندوبَ مبيعاتٍ، و تحتاج إلى وسيلة نقل، النقل له عشرات الفروع، و هذه الوسيلة تحتاج إلى كهرباء، و إلى صيانة، و إلى وقود، و إلى أجهزة، و تحتاج إلى مَن يقودها لنقل البضاعة، تصور، لا توجد مؤسسة إلا و ألوف بل عشرات الألوف يعملون في خدمتها.
سمعت أن معمل سيارات بفرنسا، مئتا ألف شركة تقدم له سلعها لأنه معمل تجميع، فعدد كبير جداً يعملون من أجله وبسببه، أما الذي يضع أمواله في المصرف ليأخذ فائدتها، شَغَّلَ كم واحداً؟ و لا واحداً، إذاً الأعمال تسهم في خفض نسب البطالة، أما حينما يلد المال المال فهذا يسهم في رفع نسب البطالة.
إذاً موضوع الربا أيضاً له علاقة بالبطالة و له علاقة بارتفاع الأسعار، واعلم أنّ خفض الأسعار له تعليل دقيق جداً، فعندما يضع الإنسان ماله في مؤسسة ربوية ليأخذ فائدةً عليه فليس هناك مخاطرة، وليس هناك ضرائب، وليس هناك مواجهة مع موظف تموين أحياناً، والجمرك أحياناً، والتأمينات أحياناً، فلن يتعرض لأية مخاطرة، فإذا رأى الإنسان أنه يمكن أن يحصل ربحاً قدره خمسة عشر بالمئة أو أكثر من دون أية مفاجأة فهل يعقل أن يضع أمواله في مشاريع بأرباح تساوي أرباح الفوائد؟ لا. فهو عندئذ في منطق العصر مجنون، لكن لا يضع صاحب المشروع أمواله في الاستثمار العملي إلا إذا ضمن أرباحاً تفوق أضعافاً أرباحَ الفوائد، إذاً بشكل أو بآخر نظام الفائدة ساهم برفع الأسعار، ولو تصورنا مجتمعاً يخلو من ربا فممكنٌ لأيِّ مشروعٍ ينشئه أن يقنع بربح قدره بالمئة عشرة أو خمسة عشر، لكن ما دام الخمسة عشر تأتيه بلا مخاطرة فكيف يخاطر بوضع رأسماله في مشروع إلا إذا كان يضمن الربح أربعين بالمئة أو خمسين؟ ويقول: إذا كان الربح خمسة عشر فأنا أضع المال في البنك وأرتاح من كل هذا التعب ومن هذه المخاطرة والمواجهة.
إعادة لرأي اليونان في الربا :
اليونان والإغريق يقولون: كان حقاً استنكار الربا لأنه طريقة كسب تولدت من النقد نفسه وهو كسب مضاد للطبع السليم، هذا كلام أرسطو.
ويقول أرسطو وأفلاطون مجتمعين: يعرّضُ الربا فلاح الدولة للخطر، وذلك بمواجهة طبقةِ المقرضين الأغنياء ضد طبقة أخرى أي المقترضين الفقراء.
صار المجتمع طبقتين: طبقة مسحوقة وطبقة ساحقة، طبقة تقرض وتزداد أموالها وطبقة تقترض وتتضاءل أموالها هذا كلام أرسطو وأفلاطون في الحضارة الإغريقية، الحق تقبله العقول السليمة وترضى به الفطر السليمة وتأتي به الشرائع الحكيمة.
2 ـ الرومان :
الرومان يقولون: هو كسب غير طبيعي وهو سبب انقسام الشعب إلى طبقتين متعارضتين، وكان التعامل الربوي محظوراً رسمياً في الحكم الروماني.
الرومان و اليونان كان الربا عندهم محرماً وفلاسفتهم ومنظِّرو عقائدهم رأوا أنه كسب غير طبيعي.
3 ـ قريش :
أما قريش ففي الجاهلية كانت منحرفة انحرافاً خطيراً، وقد لا تصدقون أنها رغم انحرافها كانت تعتقد أن كسب الربا كسب خبيث، حينما قررت قريش بناء الكعبة ماذا شرطت؟ كما قال الإمام ابن إسحاق: لما أجمعوا أمرهم على هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عامر بن عائد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجراً وقال: "يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس."
فالكعبة بنيت بمال طيب وقد ورد هذا النص في سيرة ابن إسحاق:
(( عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ، فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ، قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا، قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِاالأَرْضِ ))
إذا ذهب الأخوة في موسم الحج أو العمرة إلى الكعبة، فالكعبة معروفة، وأمامها قوس دائري اسمه الحجر، فمن دخل بين القوس والكعبة عند الطواف فطوافه باطل لأن ما بين القوس والكعبة من الكعبة، فلا يقبل الطواف إلا إذا كان حول الكعبة، فالحجر من الكعبة.
(( ... قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ... ))
ما دام أصروا على بناء الكعبة وأن يكون المال مالاً حلالاً لا ربا فيه والنفقة قصرت فاكتفوا بهذا البناء ولم يتموه على الشكل المستطيل، وأساس الكعبة مستطيلة والأموال الطيبة لم تكفِ لبناء الكعبة بناءً كاملاً، فبني هذا المكعب وبقي الحجر بلا بناء. هذا ما أورده البخاري.
إذاً قريش كانت تؤمن أن الربا كسب خبيث وهذا قبل الإسلام وورد هذا أيضاً: سيدنا عمر سأل شيخاً معمراً من بني زهرة قال: إن قريشاً تقربت لبناء الكعبة بالنفقة الطيبة فعجزت فتركوا بعض البيت في الحجر؟ فقال له: صدقت.
4 ـ الديانات السماوية :
وبعد فالديانات السماوية حرمت الربا والدليل قال تعالى:
﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا* وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾
اليهود إذاً نهوا عن أكل الربا، وفي توراتهم أيضاً ورد هذا على الرغم من تحريفها. ورد في سفر الخروج: إذا أقرضت لفقير من شعبي ممن عندك فلا تكن له كالمرابي، ولا تقيم عليه الربا، إذا رقت حال أخيك وقصرت يده عندك فاعضدْه وليعش معك كغريب، أو نزيل، ولا تأخذ منه رباً، اتقِ إلهك فيعيش أخوك معك.
هذا في التوراة، لا تقرض أخاك بربا في فضة أو طعام أو شيء آخر مما يُقرَض بالربا.
إذاً عند الإغريق واليونان الربا محرم وهو كسب خبيث، وعند الرومان كسب خبيث، وفي الديانات السماوية اليهودية والنصرانية الربا محرم، بل إن المراباة تشبه عند اليهود سفك الدماء بالضبط، وهم الآن في العالم أصحاب البنوك كلها تقريباً ولم يبق من دينهم إلا التعصب.
والنصرانية أيضاً تحرم الربا وهناك أقوال كثيرة جداً للسيد المسيح تنهى عن أكل الربا، على كلٍّ من أقوال بعض الآباء: إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا وليسوا أهلاً للتكفين بعد موتهم.
نص آخر: إذا وجد واحد من الآن يأخذ الربا أو يجعل آخر يفعل هذا له أو يسلّف على حنطة بربا أو يحتال فيه بحيلة لأجل ربح نجس فيقطع ويجعل غريباً.
هذا أيضاً من كتب النصرانية، فالإغريق واليونان واليهود والنصارى والحكماء كل هؤلاء يحرمون الربا.
حكم الربا في الإسلام :
أيها الأخوة الأكارم، وأمّا حكم الربا في الإسلام فقد قال تعالى:
﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
فهذه آية أهي قطعية الدلالة أم ظنية الدلالة؟ قطعية، هذه الآية من المتشابهات أم من المحكمات؟ آية محكمة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
الإمام الطبري يقول: اتركوا ما بقي لكم من فضل على رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربو عليها إن كنتم مؤمنين، ماذا نستنبط من هذه الآية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
من لوازم الإيمان ترك الربا، فمن أكل الربا أثبت أنه ليس بمؤمن، أحد العلماء يقول: الربا والإيمان لا يجتمعان أبداً.
أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: هي أخوف آية قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
من أكل الربا فقد كفر بما أنزل على محمد ومصيره إلى النار.
قال أبو حنيفة النعمان: أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوا أكل الربا..
وعن النبي عليه الصلاة والسلام:
((قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ، قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ ))
الربا محرم و هو من أكبر الكبائر :
الآن فضلاً عن أن الربا محرم هو من أكبر الكبائر قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾
هذه الآية، يستنبط منها أن الربا من أكبر الكبائر.
جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس وقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رجلاً سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، يصعد إلى القمر من دون مركبة، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل في جوف ابن آدم أشر من الخمر فما حكمي يا إمام؟ قال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، إذا كان أشر شيء يدخل جوف ابن آدم هو الخمر أتطلق امرأته؟ لا تطلق. أما إذا كان هناك شيء أشر من الخمر فتصبح امرأته طالقاً.
سمعت من يومين إنساناً شاهد صديقه يجري معاملة طلاق زوجته، فتحادث مع زوجته بود وجلسة صفاء وقال لها: فلانة سوف تطلق، قالت له: ليس معقولاً، فقال لها: علي الطلاق سوف يطلقها زوجها، فما طلقها زوجها، وأصبح لديهما إشكال وأنا لا أحب أنْ يجريَ الرجل على لسانه هذه الألفاظ، يكون نائماً فيصبح يتساءل يا ترى هل امرأتي بالحرام عندي؟ دخل بالوسواس فاحذروا.
فهذا رأى شخصاً يعاقر الخمر ويحاول أن يأخذ القمر فقال: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، ولما سأل الإمام "مالك" إمام دار الهجرة قال: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه في الغد فقال له: ارجع حتى أنظر فأتاه في الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله عز وجل وسنة نبيه فلم أَرَ شيئاً أشر من الربا وليس الخمر، لأن الله أذن به بالحرب، ليس من معصية في القرآن يقول الله عز وجل فيها: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.
دائماً تذكروا قول النبي:
(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
كل معصية خطورتها بحسب شمولها، هناك معصية تؤذي فاعلها فقط، وهناك معصية تؤذي شخصاً آخر، أما الربا فيؤذي مجتمعاً بأكمله، لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد بن حنبل في أبواب الربا:
((عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلائِكَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً ))
الإمام ابن حزم يقول: الربا من أكبر الكبائر.
عقوبات الربا :
العقوبات: هناك عقوبات جماعية وعقوبات فردية، وهناك طبعاً عقوبات دنيوية وعقوبات أخروية، دنيوية وجماعية وفردية، أما الجماعية:
(( فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، قَالَ: وَقَالَ: مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
ألا ترون أيها الأخوة إلى ما يجري في العالم، حروب أهلية، زلازل، براكين، أعاصير، فيضانات، قتل، مذابح، ألا ترون؟ هكذا يقول عليه الصلاة والسلام:
(( مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
هذا الحديث ورد في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد في كتاب البيوع، هذه عقوبات جماعية.
العقوبات الفردية: قالوا: المتعامل بالربا يعرّض نفسه للقتال، في المجتمع المسلم يُستتاب فإن لم يتب يقاتل، والمرابي إن لم يتب فقد أمواله كلها، والدليل القرآني: - ربنا عز وجل يحرق هذا المعمل ويحرق المستودع بأفعاله التكوينية يمحق الله الربا. أما بأوامره التكليفية فهل عندنا حكم شرعي يجيز أن تؤخذ أموال المرابي كلها؟ - قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾
وإن لم تتوبوا؟ أموالكم ليست لكم. هذا استنباط حكم مخالف، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لذلك المرابي يفقد حق التصرف في ماله، أما إذا تاب وأكل رأسماله فقط فعندئذ ينجو رأسماله فقط من المصادرة.
الله عز وجل قادر أن يطبق أمره بشكل تكويني وبشكل تكليفي :
بالمناسبة مثلاً: لو فرضنا أن إنساناً سرق، وهذا الإنسان يعيش في مجتمع لا يطبق فيه حكم قطع يد السارق، هذا حكم تكليفي قال تعالى:
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
ربما قطعت يد السارق لا بأمر تكليفي بل بأمر تكويني، وهذا ممكن بحادث، فربنا عز وجل في المجتمعات التي لا تطبق أحكام الله عز وجل الله يتولى بنفسه تطبيق أحكامه، كما قال تعالى: يمحق الله الربا، بحسب القوانين النافذة مسموح لشخصٍ أن يقيم مؤسسة ربوية حتى في البلاد التي ترفع شعارات إسلامية ما أكثر البنوك والفوائد والربا، لكنّ المجتمع إذا لم يطبق حكم الله عز وجل فالله سبحانه من طريق الأمر التكويني يطبق حكمه، أنا سمعت قصة نادرة ولكن لها معنى: شخص يركب سيارة شاحنة، مسافر مقطوع أشار له واستغاث فتوقف وهو في طريقه إلى حلب، ساومه على مبلغ كبير ووافق الراكب، أخذ منه المبلغ بيده اليسرى وقال له: اذهب واركب من الخلف، بعد أن أخذ المبلغ حرك المركبة وانطلق بها ولم يسمح له أن يركب، هذا السائق وصل إلى مكان فمد يده ليشير إلى جهته اليسرى وأثناء حركته جاءت مركبة وقطعت يده اليسرى.
فهناك فعل تكويني وأمر تكليفي، فإذا عاش شخص في مجتمع وأمر الله غير مطبق فيه فسوف يطبق قهراً وله طريقة يُطبَّق بها، والله عز وجل قادر أن يطبق أمره بشكل تكويني وبشكل تكليفي، وإذا كان الإنسان يتعامل مع المسلمين وكان بينه وبينهم عهد فإن أكل الربا فقد نقض العهد.
المعاهد إذا أكل الربا ينقض عهده في الحكم الشرعي :
روى الحافظ بن أبي شيبة عن عامر أنه قال: قرأت كتاب أهل نجران فوجدت فيه إن أكلتم الربا فلا صلح بيننا وبينكم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يصالح من يأكل الربا، ولما توفي النبي عليه الصلاة والسلام أتوا أبا بكر رضي الله عنه فوفّى لهم بذلك، وكتب لهم كتاباً نحواً من كتاب رسول الله، فلما وُلي عمر أصاب هؤلاء الربا في زمانه فأجلاهم عمر رضي الله عنه ونقض عهده معهم.
إذاً حتى المعاهد إذا أكل الربا ينقض عهده في الحكم الشرعي.
عقوبة الربا في الآخرة :
أما في الآخرة فقال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
لا يقومون من قبورهم إلى الحساب إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والإنسان إذا كان يقع بالساعة يحس بإنهاك غير معقول، يقول لك: تحطمت، فإذا قام من هذه الوضعية المرضية يقوم متحطماً، وربنا عز وجل وصف آكلي الربا بأنهم لا يقومون من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
الإمام الطبري يقول: يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً يخفق، وأجمع المفسرون أنّ آكلي الربا لا يقومون من قبورهم يوم البعث إلا كالمجانين.
((عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا فَقَالَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا))
النبي رأى رؤيا وعبّر عنها أو وصفها لأصحابه بهذه الطريقة.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ:رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرَائِيلُ قَالَ هَؤُلاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا ))
تحريم تقديم المساعدة للتعاون الربوي :
وبعد: عندنا موضوع أخير وهو تحريم تقديم المساعدة للتعاون الربوي:
((لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ))
فإن أجَّر أحدهم داراً إلى مؤسسة ربوية، هل له علاقة؟ طبعاً أعانه قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
وإذا عمل إنسان إعلاناً إلى مؤسسة ربوية فهل له علاقة؟ له علاقة، خطاط له علاقة، فأي إنسان يقدم معاونة إلى مؤسسة ربوية له علاقة، هذا هو الحق.
وللبحث بقية، وكثير من الناس يظنون أنه إذا ألف الناس شيئاً أصبح حلالاً؟ لا ثم ألف لا، والباطل مهما عمّ ومهما انتشر ومهما اتسع فالحرام حرام والحلال حلال، فإذا أردتم النجاة في الدنيا والآخرة فعليكم بطاعة الله عز وجل.
العلاقة بين الحلال و العافية :
شيء دقيق جداً أن يكون دخل الإنسان حلالاً، أنت تتعجب عندما ترى شخصاً بالخامسة والثمانين مثل الشباب يا رب ما هي القصة؟ أليس هناك قاعدة؟ نعم توجد قاعدة، زارني شخص قال: كم تقدر سني؟ قلت له: ستون عاماً، فقال لي: ست وسبعون، ثم قال لي: أنا مثل الحصان أستطيع أن أهد هذا الحائط ،وأقسم بالله أنه ما أكل في حياته درهماً حراماً
إذاً هناك علاقة بين الحلال والعافية، إنسان بالسادسة والسبعين منتصب القامة، حاد البصر، مرهف السمع، أسنانه في فمه، ذاكرته قوية، وكذلك زوجته أكرمها الله، وطول لها عمرها، وقام بشهر عسل وهو بالتسعين من عمره، سألوه: يا سيدي ما هذه الصحة؟ قال: حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
فمن يطمع أن يكون عمره مديداً وصحته قوية نقول له: اكسب المال الحلال، والحلال فيه بركة، ترى شخصاً دخله قليلٌ ولكن في دخله بركة، عافاه الله من الأطباء والصيدليات والعمليات والتصوير الطبقي والمرنان الذي تكلفته ثلاثة عشر ألف ليرة، فإذا الله عز وجل عافانا من هذه النفقات الباهظة وكان الدخل محدوداً، واللهُ طرح فيه البركة بالتعبير العامي فهذا أفضل وأحسن عاقبة، أليس كذلك؟
لا أحد يتورط واسألوا: هل هناك شبهات في كسب المال؟ ولتبحث عن المال الحلال ولو كان قليلاً، فالله جل جلاله يبارك لك فيه، وابتعد عن المال الحرام ولو كان كثيراً فالله يمحقه ويتلفه.
وسنتابع هذا الموضوع في دروس قادمة إن شاء الله تعالى.